التفكير الاستراتيجي - مهارة يجب أن تتجاوز حدود المهنة

التفكير الاستراتيجي
التفكير الاستراتيجي

توظفت في إحدى شركات التسويق يومًا ما. راتب ممتاز ومسمى وظيفي راقٍ ومهنة أتمكن منها ولا ترهقني ذهنيًا ولا تكلفني الكثير من الوقت لطول خبرتي فيها. ولكن كنت أعلم أنني لن أستمر فيها أكثر من بضعة أشهر! 

برغم أن الشركة حافلة بالكوادر والخبرات، إلا أن الفوضى كانت تعم المكان! لاحظت من اجتماعي الأول أن الشركة مثال للعشوائية المفرطة، ولا يتسم النظام فيها بأي مهنية! تفاجئت وانزعجت، كيف لمكان يحوي كل هؤلاء الأشخاص الخبراء في مجالهم أن يكون فوضويًا إلى هذا الحد! ماذا ينقصهم؟

لم أستغرق الكثير من الوقت لكي أضع يدي على العلة. فسرعان ما صارحتهم أنهم يفتقدون النظام، لا يوجد سير محدد للعمل، كلً يفعل ما يحلو له! وتأكد الأمر لي عندما طالبتهم باستراتيجيتهم السنوية لحاجتي إلى بعض البيانات منها، وعندها جاء الرد أنه لا توجد استراتيجية...كنت محقة! 

نبهتهم لهذا الأمر كثيرًا، دفعتهم بكل الطرق لكي يعالجوا المشكلة، ولكن لا استجابة. وجاءت النتيجة المتوقعة بعد بضعة أشهر، خسرت الشركة عملاءها وقررت أن تتوقف عن العمل نهائيًا! أريد أن أقص عليك المزيد من القصص الحقيقية التي تثبت لك ضرورة التفكير الاستراتيجي في حياتك. ولكن أنا حريصة على وقتك، وأريد ألا أسترسل كثيرًا في المقدمة. هيا بنا لنتعلم كيفية تطوير التفكير الاستراتيجي في حياتك الشخصية والمهنية. 

ما هو التفكير الاستراتيجي

عندما تشعر بقيمة وقتك وأهمية رسالتك في الحياة، يدفعك هذا الشعور نحو التفكير الإيجابي. وهي أهم صفة تصف التفكير الاستراتيجي، فهو القدرة على بناء خطط طويلة الأمد (سنة فأكثر). وتشمل هذه القدرة وضع الأهداف الذكية (واقعية، قابلة للقياس والتحقيق ومحددة بوقت). وترتيب الأولوليات ومن ثم القدرة على تحديد الإجراءات والأفعال التي تؤول إلى تحقيق هذه الأهداف.

يشمل التفكير الاستراتيجي أيضًا القدرة على التحليل وحل المشكلات. التفكير الاستراتيجي مهارة شخصية قبل أن تكون مهنية. فهي تبدأ من داخل الفرد قبل أن يصبها في المؤسسة التي هو فرد منها.

عناصر التفكير الاستراتيجي

يتكون التفكير الاستراتيجي من خمسة عناصر. وتختلف مسمياتهم من مصدر لآخر، ولكنني سوف أسرد لك العناصر أو الخصائص التي لا تتجزأ عن هذه المهارة الحياتية المحورية. 

التركيز الهادف

التركيز الهادف هو أن تمتلك اتجاهًا واضحًا لا يتزعزع. ويظهر هذا العنصر في قدرتك على وضع أهداف محددة وقابلة للقياس وتتماشى مع رؤيتك الشاملة. أهم ما يميز صاحب التفكير الاستراتيجي أنه شخص محدد ويستطيع أن يخبر الآخرين بأهدافه ومقاصده بكل وضوح. إضافةً إلى قدرته على ترتيب أولوياته ترتيبًا واقعيًا حقيقيًا.و تأتي هذه القدرة من معرفته لنفسه فردًا وجزءًا من جماعة.

الرؤية النظامية

لكل نظام مكونات مترابطة، والرؤية النظامية هي القدرة على فهم هذه الطبيعة المترابطة لمكونات النظام. وأن يمكن لبعض التغيرات في أحد المكونات أن تحدث أثرًا يمتد إلى باقي المكونات في النظام كأثر انتقال الموجة. سأشرح لك بالمثال: 

أنت في شركة تعمل في مجال معين، هذه الشركة جزء من نظام يربط بينها وبين السوق والعملاء والمنافسين وأحوال البلد وكفاءة الموظفين وغيرها الكثير من المكونات التي يؤثر بعضها في بعض. فعندما يجد جديد على السوق أو يظهر منافس قوي ربما يحدث اضطراب على مستوى الشركة.

ولكن مع قدرةالشركة التحليلية للمواقف وإعدادها المُسبق لاستراتيجية محكمة تشمل التفكير في المخاطر والتهديدات. بالإضافة إلى وضع خطط بديلة بالطبع؛ وقتها سيكون التأثير لحظيًا. ولكن الأهم من كل هذا هو وعي الشركة بالرؤية النظامية وإدراكها لكونها جزء من منظومة مترابطة. 

التفكير في الوقت

الإطار الذي يحكم المفكرين الاستراتيجين هو الإطار الزمني، فمن أهم سماتهم هو احترام الوقت كما قلت لك من قبل. فقبل أن يضع استراتيجيته يفكر في الماضي وحاله فيه ومشاكله وأخطائه التي يجب أن يتعلم منها. ثم يفكر في حاضره الذي هو مقبل على تحسينه، ثم يفكر في المستقبل وتطلعاته فيه. إضافة إلى التفكير في التهديدات والمخاطر المحتملة لكي تساعده في وضع خطط بديلة. ولكي يجهز نفسه حتى يحسن التعامل مع أي مخاطرحال حدوثها.

الانطلاق من الفرضيات

من أهم سمات صاحب التفكير الاستراتيجي هو قدرته على صياغة الافتراضات التي ينطلق وفقًا لها. ولكنه لا يبني الفرضية من لا شيء، بل هو لديه بعض البيانات والمعلومات والخبرة والقدرة على البحث والتحليل. ثم يبني بهم الفرضية، ثم ينطلق في وضع الحلول والخطط. 

اقتناص الفرص بذكاء

المفكر الاستراتيجي دائمًا متأهب وجاهز، يعمل على خطته وفق افتراضاته وتوقعاته. وفي نفس الوقت شخص مرن ولديه قدرة فائقة على التكيف والتأقلم. أثناء عمله يراقب الأجواء المحيطة كأنه ينتظر أي فرصة طارئة. لكي يسارع في اقتناصها وسحبها إلى استراتيجيته في الحال، وسرعان ما يكيف استراتيجيته عليها وتندمج معها. 

كيفية تطوير التفكير الاستراتيجي

إن لم تتسم بتلك العناصر التي تحدثت عنها فلا تفقد الأمل. هناك طرق لتطوير التفكير الاستراتيجي ضمن خطة التطوير الشخصي يجب عليك أن تبدأ بها.

تعلم أن تسأل

السؤال المناسب في الوقت المناسب. فقدرتك على طرح الأسئلة هي بداية حل المشكلات، ولكن يجب أن يكون السؤال في سياق واقعك مرتبطًا بهدفك ومتوجهًا نحوه. يجب أن تسأل سؤال كامل ومحدد، لا سؤال عام إجابته تحتاج إلى المزيد من الأسئلة. بل يجب أن يكون مخصصًا لحالتك ولمشكلتك ولهدفك لكي تسلك أقصر الطرق نحو الإجابة. فبدلًا من أن تسأل وتقول: «كيف تنجح المشروعات الصغيرة؟» اسأل: «كيف ندخل سوق تجارة الأجهزة الكهربائية في مدينة كذا؟».

راقب وتأمل

ذلك حتى تجد إجابات للأسئلة التي طرحتها. يكمن هدفك في سؤال، وإجابته تبدأ بالبحث والتحليل وجمع المعلومات. بالإضافة إلى بناء الافتراضيات وتمتد إلى وضع الإجراءات المناسبة لكي تحقق هدفك في النهاية. 

كن مرنًا

المرونة مطلوبة مع استراتيجيتك التي وضعتها بالفعل، فرحلتك قائمة على المحاولة والفشل والتجربة. فشل بعض الإجراءات في خطتك لا يعني فشل الاستراتيجية نفسها. فمن المهم أن تتقبل وقوع الظروف العارضة. وتبحث في الأسباب وتجمع البيانات والمعلومات ثم تعيد تهيئة استراتيجتك لتنطلق من جديد بنفس الحماس. 

واصل التعلم

وذلك حتى تطور مهاراتك التفكيرية والتحليلية وترفع وعيك بنفسك وبالعالم الذي تعيش فيه. اقرأ كتب في مجالك وفي المجالات التي ترغب في تحسين وضعك فيها. سجل في دورات مرتبطة بالمهارات التي ترغب في تعلمها. و تدرب على حل المشكلات مرارًا وتكرارًا وتأكد أنك بكل خطوة تخطوها تتطور حتى وإن لم تلمس ذلك بيدك.

أمثلة على التفكير الاستراتيجي

لتتضح الفكرة أكثر عزيزي المثابر؛ سأقدم لك مثالين عمليين على طريقة التفكير الاستراتيجي. وذلك حتى تتمكن من تخيل الطريقة المثالية التي تُفكر بها لحل المشكلات:

شخص يرغب في وظيفة مناسبة

قبل أن يجلس ويراقب أي عرض عمل منشور على أي منصة. يجب أن يحدد المجالات التي يرغب في العمل بها. وهذا التحديد يعتمد على رغبته وعلى اتجاهات السوق في بلده أو في البلد التي يرغب في العمل فيها. وبعد أن يحدد المجالات بدقة يبدأ في تطوير المهارات المطلوبة في هذا المجال. ثم يبدأ بالتدريب العملي عليها بالتوازي مع بحثه عن إعلانات الوظائف المرتبطة بهذا المجال. فهو في البداية حدد الهدف بوضوح، ثم بحث عن متطلبات موافقة الهدف ثم بدأ في توفير هذه المتطلبات.

موقع إلكتروني يرغب في تصدر محركات البحث

قبل أن ينطلق صاحب المشروع في إنشاء موقع احترافي وشراء نطاق وخلافه، يجب أن يبني استراتيجية تبدأ من هدفه. لماذا يرغب في تصدر محركات البحث؟ هل يرغب في الحصول على الزيارات العضوية؟ لماذا يرغب في زيادة الزيارات؟ هل يرغب في الحصول على أموال الإعلانات أم يرغب في رفع وعي الجمهور بعلامته التجارية؟

وهكذا يظل يسأل حتى يصل إلى الهدف الحقيقي الذي يرغب في تحقيقه. بعدها فقط يبدأ في دراسة السوق والمنافسين والجمهور ويجمع البيانات. ثم يضع الاستراتيجية بالأهداف بالإطار الزمني بالمهام المطلوبة وينطلق ممتثلًا لكل العناصر والخصائص التي تحدثنا عنها سابقًا. 

التفكير الاستراتيجي مهارة تفوق حدود المهنة. فهي أساس الإنسان الذي يرغب في أن يعيش حياته بإيجابية. ولا يترك العشوائية والفراغ يأكلان عمره ويخيما بالحزن واليأس على قلبه. كن مثابرًا وتعلم أن تفكر لكي تبني حياتك بناءً صحيحًا ومن ثم تكن شخصًا فعالًا في عملك ومؤسستك.