تخيل معي أن هناك شركة بدأت رحلتها ببيع رقائق البطاطس (الشيبس)، ثم بعد سنوات قليلة دخلت في سوق صناعة السيارات، ثم انتقلت إلى العقارات، ثم بدأت في إدارة سلاسل مطاعم! هل يبدو لك ذلك ضربًا من الجنون؟ صحيح أنه تصرف غريب ولكنه نهج العديد من الشركات الكبيرة ويعرف باستراتيجية التنويع. السر الذي يحول الشركات من مجرد لاعب في السوق إلى ملك يتحكم في قواعد اللعبة.
ما هي استراتيجية التنويع؟
استراتيجية التنويع هي مسار متفرع تختار بعض الشركات أن تسير فيه لكي تقلل مخاطر الاعتماد على مصدر دخل واحد، وذلك بدخول أسواق جديدة تختلف عن نشاطها الأولي، بشرط أن يكون هذا التنوع مدروس ومحسوب لكي يحقق الهدف منه.
لماذا تلجأ الشركات إلى استراتيجية التنويع؟
لم يعد الاكتفاء بمصدر دخل واحد أو سوق واحدة خيارًا آمنًا. فالشركات الكبرى اليوم تدرك أن البقاء لا يكفي، بل لا بد من النمو والتكيّف المستمر مع بيئات السوق المتقلبة والفرص المتجددة. وهنا يظهر دور استراتيجية التنويع كأداة فعالة تتبناها المؤسسات ليس فقط للنجاة، بل لبناء مستقبل أكثر استقرارًا وربحية.
تقليل المخاطر
يعتبر هذا السبب أحد أبرز الأسباب التي تدفع العديد من الشركات إلى استراتيجية التنويع. عندما تعتمد الشركة على منتج أو سوق واحد فقط، فإنها تكون معرضة للخطر إذا تراجعت المبيعات أو حدثت أزمة. فهي هنا تتبع الحكمة التي تقول: «لا تضع البيض في سلة واحدة».
تحقيق النمو والتوسع
تبحث الشركات دائمًا عن أسواق جديدة ومنتجات إضافية لزيادة الإيرادات. يمكن أن يفتح التنويع أبوابًا لشرائح جديدة من العملاء ويؤثر في زيادة الوعي بالشركة الأم وتوسعها أكثر.
استغلال الموارد والقدرات
تمتلك الشركات أحيانًا موارد يمكن استخدامها في مجالات أخرى، مثل: خبرة إدارية، بنية تحتية، تكنولوجيا، علاقات خارجية. وحينها تفكر الإدارة أنه من السيئ الحجر على هذه الموارد ودفنها في مكان واحد، بل تقرر الاستفادة منها وكذلك إفادتها.
التكيف مع تغيّرات السوق
تتغير الأوضاع الاقتصادية مؤخرًا بسرعة وكذلك الأسواق يمكن أن ينقلب حالها في يوم وليلة. ودخول مجال جديد يساعد الشركة على البقاء مرنة أمام الأزمات أو المنافسة الشرسة. مثال: بدأت شركات الطيران أثناء جائحة كورونا تقديم خدمات لوجستية أو شحن بضائع بدلًا من الاعتماد فقط على نقل الركاب.
تعظيم القيمة السوقية
يرفع التنوع المدروس من قيمة الشركة في السوق المالي، لأنه يجعلها أقل عرضة للصدمات ويُظهر قدرتها على الابتكار والنمو.
استفادة من الفرص الاستثمارية
تنفذ بعض الشركات استراتيجية التنويع حين ترصد فرصًا رابحة في قطاعات أخرى، خصوصًا إن كانت الأسواق الأصلية مشبعة أو منخفضة النمو.
زيادة موثوقية العلامة التجارية
عندما تلمع الشركة في أكثر من مجال، تزداد ثقة الجمهور بها، ويُنظر إليها على أنها علامة قوية وخبيرة.
أنواع استراتيجيات التنويع
مهم لك أن تعرف أنواع استراتيجيات التنويع لأن ليست كل الأنواع تناسب الجميع، لأن هذه الاستراتيجية حساسة والدراسة والحساب فيها ليس رفاهية أبدًا. تُقسَّم استراتيجية التنويع إلى عدة أنواع رئيسية، ساهم العديد من الباحثين والمفكرين الإداريين في تصنيفها وتفسيرها. لا سيما الأنواع المعلنة في ضوء "مصفوفة أنسوف" الشهيرة.
استراتيجية التنويع المرتبط (Related Diversification)
ويعرف أحيانًا بالتنويع المتقارب أو التراكمي، وتشير هذه الاستراتيجية إلى إمكانية دخول الشركة في مجالات جديدة مرتبطة تقنيًا أو تسويقيًا بنشاطها الأصلي. تعمل هذه الاستراتيجية في ضوء استخدام المهارات والموارد المشتركة (المرتبطة بين المجالات) بكفاءة.
استراتيجية التنويع غير المرتبط (Unrelated or Conglomerate Diversification)
وهي الدخول في قطاعات لا تمت بصلة إلى النشاط الأساسي للشركة. غالبًا ما تلجأ إليه الشركات الكبيرة التي تسعى لتقليل المخاطر الكلية بتوزيع الاستثمار في قطاعات متعددة (مثل الشركة التي تحدثنا عنها في المقدمة).
استراتيجية التنويع الأفقي (Horizontal Diversification)
يعتمد هذا النوع على تقديم الشركة منتجات جديدة تستهدف نفس العملاء الحاليين، حتى إن لم تكن هذه المنتجات مرتبطة تقنيًا بالمنتجات الأساسية، ولكن تشترك معها في الاستهداف. مثلًا تطوير إضافات ووردبريس تتكامل بشكل خاص مع القوالب الرئيسية التي تطورها.
ومثال آخر على استراتيجية التنويع الأفقي عندما أطلقت Apple خدمة Apple Music في عام 2015، وهي منصة لبث الموسيقى. لا ترتبط هذه الخدمة تقنيًا بصناعة الأجهزة (أي ليست جوالًا أو حاسوبًا)، لكنها تستهدف نفس عملاء أبل الذين يمتلكون أجهزتها ويبحثون عن تجربة ترفيه متكاملة.
استراتيجية التنويع العمودي (Vertical Diversification)
يتمثل في توسّع الشركة على طول سلسلة الإنتاج (بأن تعمل على تغطية احتياجاتها بنفسها) إما إلى الخلف (مثلاً إنتاج المواد الخام) أو إلى الأمام (مثل التوزيع أو البيع بالتجزئة).
استراتيجية التنويع الجغرافي (Geographic Diversification)
وهو التوسع إلى أسواق جديدة في مناطق أو دول مختلفة. لا يتعلق بالمنتج بل بموقع السوق.
التحديات والمخاطر لاستراتيجية التنويع
رغم ما تمنحه استراتيجية التنويع من فرص واعدة للنمو وتقليل المخاطر، إلا أنها ليست وصفة سحرية خالية من التحديات. بل على العكس، قد تكون أحيانًا مغامرة محفوفة بالمخاطر، خصوصًا عندما تتجه الشركات نحو أسواق جديدة أو قطاعات غير مألوفة عليها. فالدخول إلى ميادين لم تُختبر فيها قدرات الشركة من قبل، دون دراسة دقيقة وتحليل شامل، قد يؤدي إلى خسائر تهدد الكيان بأكمله.
من أبرز ما يرافق هذه الاستراتيجية أيضًا ارتفاع التكاليف التشغيلية والاستثمارية، إذ تحتاج الشركة إلى تطوير مهارات جديدة، واعتماد تقنيات قد لا تمت بصلة لما اعتادت عليه. هذا التوسع يتطلب موارد مالية وبشرية كبيرة، وهو ما قد يشكل عبئًا ثقيلًا إذا لم يدار بذكاء وواقعية.
كما أن التنويع المفرط قد يؤدي إلى تشتت في الجهود، خاصة إذا لم تكن هناك رؤية واضحة وآليات محكمة لتوزيع الأدوار والموارد. فبدلًا من أن يصبح التنويع وسيلة لتعزيز النجاح، قد يتحول إلى سبب لتراجع الأداء في النشاط الرئيسي ذاته. إذا غابت الكفاءات التي تدير هذا التوسّع بكفاءة.
ولذا فإن استراتيجية التنويع تتطلب موازنة دقيقة بين الطموح والحذر، بين اقتناص الفرص وتجنب الغرق في فوضى التوسع غير المدروس.
شروط نجاح استراتيجية التنويع
حسب أبحاث Sakhartov وآخرين، فإن الشركات الناجحة في التنويع تسعى إلى اقتصاديات الحجم والترابط بين القطاعات Shared resources. وهو ما يعني الاستفادة من كِبر الحجم وتكرار استخدام نفس الأصول والإمكانيات في أكثر من قطاع. وتعمل الشركات الناجحة كذلك في قطاعات مرتبطة ومتداخلة، لتحقيق أفضل النتائج وخفض المخاطر. إضافةً إلى أنها تأخذ في الحسبان ارتباط العوائد (Correlation) بين القطاعات، بحيث يكون تنويعها فعال في حالة وجود تقلبات غير متزامنة.
متى تصبح استراتيجية التنويع مفيدة في المشروعات الرقمية؟
استراتيجية التنويع مفيدة في المشروعات الرقمية عندما تستند إلى ما يملكه صاحب المشروع من خبرات تقنية> فمثلًا، مطور قوالب ووردبريس يمكنه تنويع نشاطه عبر إطلاق إضافات تخدم نفس الجمهور المستهدف، مثل إضافة لصفحة الهبوط أو نموذج الاشتراك، مستفيدًا من نفس خبرته التقنية وقاعدة العملاء. وبالمثل، من يبيع قوالب تصميم على Canva أو Notion يمكنه التوسع بإطلاق دورات مصغرة تشرح كيفية استخدامها أو تحسينها.
أيضًا، صاحب متجر رقمي يبيع كتب إلكترونية في مجال معين (مثلاً التسويق أو التصميم) يمكنه تنويع نشاطه بإطلاق نشرات بريدية مدفوعة أو ملفات عمل قابلة للتعديل (workbooks) أو حتى خدمات مراجعة المحتوى. في كل هذه الأمثلة، لا ينتقل المشروع إلى مجال غريب، بل يتوسع بشكل ذكي باستخدام نفس الأدوات والموارد، ليبني مصادر دخل متعددة تعزز استقراره ونموه.
استراتيجية التنويع استراتيجية علمية قوية، ولكنها ليس مجرد ممارسات تحتمل التجربة لنرى إن كان بإمكاننا استخدامها للنمو أم لا، هي مسارات مدروسة بعناية في استراتيجية متكاملة محددة بأهداف وأنواع محددة للتنويع وتوقع للتحديات والمخاطر وكل الإجراءات التي يمكن أن تساهم في نجاح الاستراتيجية وكذلك الموارد المطلوبة.